الكاتب : الشيخ صلاح العيسى
الموضوع : التاريخ الهجري ونهاية العام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فمعنى "التاريخ" هو تعريف الوقت ، وقد نقل بعض أهل العلم أن أول ما أُحدث من التاريخ هو سنة الطوفان زمن نوح عليه السلام([1]) ، فكان الناس يؤرخون به ، ثم لما كثرت الأمم وتعددت الشعوب اتخذت كل أمة تاريخا لها ، جعلته شعارا لدينها وحضارتها ، وتوثيقا لأخبارها ومعاملاتها .
والسنة الشرعية الطبيعية هي السنة القمرية ، والعدد الشرعي والطبيعي لأشهرها هو اثنا عشر شهرا قمريا ، كما قال تبارك وتعالى : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة : 36] .
أما التأريخ الهجري فهو منسوب إلى الهجرة النبوية الشريفة ، ويذكر بالسنة التاريخية المشهودة المباركة : سنة هجرة المصطفى r من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية المنورة التي جددت مسار التاريخ الإنساني .
وأول من أمر باستعمال التاريخ الهجري هو الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t ، وسبب ذلك ما رواه ميمون بن مهران رحمه الله قال : «رفع لعمر صك محله شعبان ، فقال : أي شعبان؟ الماضي ، أو الذي نحن فيه ، أو الآتي ؟ ضعوا للناس شيئا يعرفونه» رواه البخاري في الأدب .
وعن سعيد بن المسيِّب رحمه الله قال : «جمع عمر بن الخطاب الناس فسألهم من أي يوم نكتب ؟ فقال عليّ بن أبي طالب t : من يوم هاجر رسول الله r وترك أرض الشرك» رواه ابن جرير ([2]) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله r المدينة ، وفيها ولد عبدالله بن الزبير» رواه ابن جرير ([3]) .
وعن سهل بن سعد t قال : «ما عدُّوا من مبعث النبي r ولا من وفاته ، ما عدُّوا إلا من مقدمه المدينة» رواه البخاري ([4]) .
فالصحابة رضي الله عنهم لما أرادوا تأريخ معاملاتهم ، لم يستعملوا تواريخ الأمم الأخرى كالروم والفرس والقبط وغيرهم ، وإنما أنشؤوا تاريخا جديدا للأمة الإسلامية يبدأ من هجرة المصطفى r ، لأن هجرته فرّقت بين الحق والباطل ، ولذلك فإن ما اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم يكون إجماعا لا تجوز مخالفته .
أما الشهر الذي تبدأ به السنة الهجرية فقد اتفق الصحابة على أن يكون هو شهر المحرم ، فعن ابن سيرين رحمه الله ، أن عمر بن الخطاب t قال : «... بأي شهر نبدأ ؟ فقال قوم من رجب ، وقال قائل من رمضان ، فقال عثمان t : أرخوا المحرم ، فإنه شهر حرام ، وهو أول السنة ، ومنصرف الناس من الحج ... » رواه ابن أبي خيثمة .
وعن عامر الشعبي رحمه الله قال : « ... فلما اتفقوا قال بعضهم : ابدؤوا برمضان ، فقال عمر : بل بالمحرم ، فإنه منصرف الناس من حجهم ، فاتفقوا عليه» رواه أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه .
قال الحافظ : وإنما قدموه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مُقَدِّمة الهجرة ، فكان أولُ هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة المحرم ، فناسب أن يكون مبتدأ السنة .
وكانت بداية استعمال التاريخ الهجري في شهر ربيع الأول سنة ست عشرة ، لسنتين ونصف من خلافة عمر بن الخطاب t ، فعن سعيد بن المسيب رحمه الله قال : «أول من كتب التاريخ عمر t ، لسنتين ونصف من خلافته ، فكتب لست عشرة من الهجرة ، بمشورة عليّ بن أبي طالب t» رواه ابن جرير ([5]) .
ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين في هذا العصر قد أعرضوا عن استعمال التاريخ الهجري ، واستعملوا بدلا منه التاريخ النصراني ، وهذا يدل على الهزيمة النفسية وضعف الانتماء إلى العقيدة والحضارة الإسلامية ، لأن في ترك استعمال التاريخ الهجري واستبداله بالتاريخ النصراني رفع لشعار النصارى .
فالواجب على المسلمين أن يستعملوا التاريخ الهجري الإسلامي في عقودهم ومراسلاتهم ووثائقهم وجميع معاملاتهم ، وإذا احتاجوا إلى استعمال التأريخ النصراني ، فلا بأس بذلك بشرط أن يجعلوه تابعا للتاريخ الهجري ، فيقدم التأريخ الهجري أولاً، ثم يجعل التأريخ النصراني بعده أو تحته .
أما حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد ، فقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - عن ذلك ؟ فأجاب رحمه الله : (إنْ هَنَّأك أحد فَرُدَّ عليه ، ولا تب تدئ أحداً بذلك ، هذا هو الصواب في هذه المسألة ، فلو قال لك إنسان مثلاً : نهنئك بهذا العام الجديد ، فقل : هنأك الله بخير وجعله عام خير وبركه ، لكن لا تبتدئ الناس أنت ، لأنني لا أعلم أنه جاء عن السلف أنهم كانوا يهنئون بالعام الجديد) اهـ .
ومن العلماء من قال : إن الأصل فيها الإباحة ، فليست هي بمشروعة ، وليست هي ببدعة ، وإن كان عدم الابتداء بها أولى .
ويحسن التنبيه إلى أمر انتشر كثيراً عبر رسائل الجوال وهي ربط ختم الأعمال وصحائف الأعمال بالعام الهجري ، وهذا لا أصل له ، لأن صحائف الأعمال تطوى كل يوم ، وكان من الصحابة من يحاسب نفسه ويستغفر ويتوب كل ليلة ، أما ابتداء العام الهجري فقد اصطلح عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t فلا معنى لتخصيصها بالاستغفار والمسامحة .
ومن المخالفات الشرعية احتفال كثير من المسلمين بالهجرة أو ما يسمى "عيد رأس السنة الهجرية الجديدة" ، وأكثر الدول الإسلامية تجعله إجازة رسمية ، وربما شارك في تلك الاحتفالات بعض الأخيار والمنتسبين إلى العلم بحسن نية ، فيخصون تلك الاحتفالات بقراءة قصة الهجرة من سيرة النبي r ، ولا شك أن قراءة السيرة النبوية العطرة تزيد في الإيمان ، ولكن العلماء بينوا أن الاحتفال برأس السنة الهجرية الجديدة أمر محدث مبتدع غير مشروع ، لم يفعله النبي r ، ولا الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولم يحدث إلا في العصو ر المتأخرة ، تشبها بالنصارى الذين يحتفلون برأس السنة الإفرنجية ويسرفون في ليلتها في تعاطي المسكرات والخمور ، ويجاهرون فيها بالفسق والفجور ، فالواجب على المسلمين ترك البدع والمنكرات وعدم التشبه بالنصارى في الفساد والموبقات .
وأما السيرة النبوية فتدرس كما كان يدرسها سلفنا الصالح ، من غير تقييد بيوم محدد أو احتفال معين ، وحتى لا تكون سيرته r ذكريات عابرة في يوم واحد في السنة ، بل تُدرس وتُقرأ ويُقتدى بها كل حين ، قولا وعملا ، في جهاده r وصبره وثباته في دعوته ...
ومن المفارقات والتناقضات التي يقع فيها كثير من المسلمين ، أن بعض الذين يحتفلون بما يسمى "عيد الهجرة" ، قد هجروا الشريعة الإسلامية ، واتهموها بالجمود والتخلف والوحشية ... فكيف يحتفلون بهجرة النبي r ، وهم أنفسهم قد هجروا تعاليمه ؟ ومن المفارقات أنهم يحتفلون بالهجرة ، وقد هجروا التأريخ الهجري وطعنوا في صحته ومصداقيته ، واستبدلوه بالتأريخ الإفرنجي النصراني؟
إن الهجرة الحقيقية هي هجرة الشرك وأهله ، وهجرة المعاصي والذنوب ، وقد ورد في الحديث أن المهاجر هو من هَجَر ما نهى الله تعالى عنه ، والمسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده ....
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ . وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقول